الحلقة الأولى : المظاهر الحسية المشروعة:
- اقشعرار الجسد
- البكاء عند سماع آي القرآن وتلاوتها
بقلم : أبي يزيد سليم بن صفية / مرحلة الدكتوراه بكلية الدعوة/ الجامعة الإسلامية بالمدينة
إنّ الناس يتفاوتون في التأثر القرآن الكريم حال سماعه وتلاوته على مذاهب، ومدار ذلك كله على حضور القلب ويقظته, وعلى طهارته, وصفائه, ونقائه.
وآيات القرآن تحرك القلوب, وتهزّ النفوس, ويعتري بذلك الجوارح الاضطراب والتجاوب, فتسحّ الدموع, وتقشعر الجلود.
ولكن شطّ قوم وبالغوا في هذا التأثر لا سيما المتعلق بالجوارح, وفيما يلي بيان المشروع من من الممنوع من هذه الآثار, والله الموفق.
المطلب الأول: مظاهر التأثر بالقرآن الكريم.
إن مظاهر تأثر العبد بالقرآن الكريم كثيرة, ومتفاوتة بين الخلق, ولكن يمكن تقسميها إلى أقسام ثلاثة: مظاهر حسيّة, ومظاهر وجدانية, ومظاهر سلوكية.
وفيما يلي تفصيل لهذه المظاهر:
أولاً: المظاهر الحسية:
والمقصود بذلك: المظاهر التي تظهر على جوارح التالي لكتاب الله والمستمع له, وهذه المظاهر تأتي تبعاً لتأثر القلب والنفس, وإنما جرى تقديمها, لأمرين اثنين:
- أسوة بالقرآن الكريم حيث جرى تقديم المظاهر الحسية على المظاهر الوجدانية في مواطن كثيرة, فمن ذلك قوله تعالى: (( اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ الله )) [1].
- ولأنّ المظاهر الحسيّة هي أول ما يبدو ويظهر للناظرين, بخلاف المظاهر الوجدانية فإنّ أثرها يظهر بعد حين, فهي أبطأ ظهوراً, وأطول أثراً, عكس المظاهر الحسية [2].
- أنواع المظاهر الحسية:
يمكن أن نقسّم المظاهر الحسيّة, باعتبار حكمها: إلى مظاهر مشروعة, ومظاهر مختلف فيها, وسيجري الحديث عن هذه المظاهر وفقاً لذلك:
أ- المظاهر الحسية المشروعة:
بيّن الله تعالى حال المؤمنين الكُمَّل الخُلَّص عند سماعهم لمواعظ القرآن, فما إنْ ترد عليهم مواعظه حتى تقشعر جلودهم, وتنهمل دموعهم, وتخشع أبصارهم, وتستقرّ جوارحهم, ثم تلين جلودهم لهذه المواعظ.
- فأما اقشعرار الجلد : فهو مذكور في قوله تعالى: (( اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ الله )).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "الأحوال التي كانت في الصحابة هي المذكورة في القرآن وهي: وجل القلوب, ودموع العين, واقشعرار الجلود" [3].
واقشعرار الجلد عند سماع آي القرآن وتلاوتها مردّه إلى تقصير العبد في جنب الله, وتعدّيه لحدوده, فورود الموعظة عليه تحدث في الجوارح والجلد بعض الاضطراب.
قال تعالى في وصف القرآن: (( تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ الله )) , فذكر أنه بعد الاقشعرار تلين جلودهم, وقلوبهم إلى ذكر الله.
"فذكره -تعالى- بالذات يوجب الطمأنينة, وإنما الاقشعرار, والوجل عارض بسبب ما في نفس الإنسان من التقصير في حقه, والتعدِّي لحدِّه, فهو كالزبد مع ما ينفع الناس, الزبد يذهب جفاء, وما ينفع الناس يمكث في الأرض" [4] .
وقد يكون اقشعرار الجلد تابعاً لخوف القلب, ووجله مما يسمع من المواعظ المخوّفة, والزواجر الرادعة, وهذا شأن الجلد مع كلّ المخوِّفات, وهي طبيعة خلقها الله فيه, لفرط حساسيته, وشدّة انفعاله مع اضطرابات النفس [5].
وهذا الأثر قد لا يكاد يشاهده إلاّ صاحبه, أو من يكون قريباً من المستمع لآي القرآن, ولذلك لم يجر ذكره فيما نُقِل من آثار عن السلف في تأثرهم بالقرآن.
- وأما البكاء عند سماع آي القرآن وتلاوتها : فقد جرى ذكره في مواطن كثيرة من كتاب الله تعالى, فمن ذلك قوله تعالى -واصفاً بكاء أهل الصدق عند سماع القرآن : ((وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ)) [6].
وقال تعالى - في وصف عباد الله المتّقين وشدة تأثرهم عند سماعهم للقرآن والذكر-: (( وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً * قُلْ آمِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُواْ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّداً * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً * وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً )) [7].
- والبكاء دليل على حياة القلب , وخضوعه وخشوعه, وإنابته, ولذا جرى مدحه في نصوص كثيرة, فالبكاء من خشية الله يوجب لصاحبه الأمان تحت ظل عرش الرحمن, ويوجب له دخول الجنان, والنجاة من النيران, ولو كمل علم العبد لسحّت دموعه في كلّ أوان, ولكن قلّة العلم بالله, وغفلة القلب عن الله توجبان قحط العين.
عن أنس رضي الله عنه قال: « خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبة ما سمعت مثلها قط, قال: لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا, ولبكيتم كثيراً, قال: فغطى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وجوههم لهم خنين » [8] .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يلج النار رجل بكى من خشية الله تعالى حتى يعود اللبن في الضرع» [9].
- وللسلف رحمهم الله شأن عظيم مع البكاء من خشية الله عند سماع القرآن وتلاوته, وعند الاستماع للمواعظ:
فعن العرباض بن سارية رضي الله عنه قال: « وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة بليغة ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب » .
وعن الحارث بن عبيد قال: "كان عبد الواحد بن زيد يجلس إلى جنبي عند مالك -بن دينار- فكنت لا أفهم كثيراً من موعظة مالك لبكاء عبد الواحد" [10] .
- وقد يكون البكاء مصحوباً بالنشيج , كما يذكر عن عمر بن عبد العزيز أنّه قرأ عنده رجلٌ: ((وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُوراً)) [11] , فبكى حتى غلبه البكاء, وعلا نشيجه, فقام من مجلسه فدخل بيته, وتفرق الناس" [12] .
- وكان البكاء مشتركاً عند السلف رحمهم الله بين القارئ والمستمع :
فعن بكر بن عبد الله المزني: "أن أبا موسى رضي الله عنه خطب الناس بالبصرة, فذكر في خطبته النار فبكى حتى سقطت دموعه على المنبر, قال: وبكى الناس يومئذ بكاء شديداً" [13] .
- ومن سمت السلف رحمهم الله الاجتهاد في إخفاء البكاء خوفاً من العجب والرياء, ولربما استعملوا في سبيل ذلك أنواع الحيل المشروعة :
فعن حماد بن زيد قال: بكى أيوب -السختياني- مرة فأخذ بأنفه, وقال: إن هذه الزكمة ربما عرضت", وبكى مرة أخرى فاستكنى بكاءه فقال: إن الشيخ إذا كبر مجّ [14] .
وكان حسان بن أبي سنان يحضر مسجد مالك بن دينار, فإذا تكلم مالك بكى حسان حتى يبلّ ما بين يديه, لا يسمع له صوت" [15] .
- وكان وعّاظ السلف رحمهم الله يزجرون الباكي عند الموعظة أحياناً خشية أن يدخل قلبه العجب, أو أن يكون الحامل له على البكاء هو الرياء لا الخوف والخشية:
فعن عبد الله بن حبيب قال: "رأيت محمد بن كعب يقصّ, فبكى رجلٌ, فقطع قصصه, وقال: من الباكي ؟ قالوا: مولى بني فلان, قال: فكأنه كره ذلك" [16] .
وعن الرملي: " أن الحسن حدث يوماً, أو وعظ, فنحب رجلٌ في مجلسه, فقال الحسن: إن كان لله فقد شهَّرت نفسك, وإن كان لغير الله هلكت !" [17] .
- ومن الآثار الحسية لمواعظ القرآن سكون الجوارح: واستقرارها, ولين الجلود بعد سماع المواعظ, ويكون هذا تبعاً لاطمئنان القلب وسكونه.
وقد أشار القرآن الكريم إلى هذا الأثر العظيم عند قوله تعالى: (( اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ الله )).
قال الشاطبي رحمه الله: "إن الوجل تأثر ولين يحصل في القلب بسبب الموعظة, فترى الجلد من أجل ذلك يقشعر, والعين تدمع, واللين إذا حلّ بالقلب -وهو باطن الإنسان- حلّ بالجلد بشهادة الله -وهو ظاهر الإنسان-.
فإذا رأيت أحداً سمع موعظة, أيّ موعظة كانت, فيظهر عليه من الأثر ما ظهر على السلف الصالح, علمت أنها رقة هي أول الوجد, وأنها صحيحة لا اعتراض فيها" [18].
وكانت هذه حال الصحابة ي عند سماع المواعظ تسكن جوارحهم وتستقر:
فعن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: « خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة رجل من الأنصار فانتهينا إلى القبر, ولمّا يلحد فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وجلسنا حوله كأنما على رءوسنا الطير, وفي يده عود ينكت به في الأرض, فرفع رأسه فقال: استعيذوا بالله من عذاب القبر مرتين أو ثلاثاً » [19] .
قال في عمدة القاري: "قال الداودي: يعني أن كل واحد صار كمن على رأسه طائر يريد صيده فلا يتحرك كيلا يطير" [20], وهذا كناية: على السكون والوقار [21].
--------------------------------------------------------------------------------
[1] سورة الزمر, الآية 23.
[2] انظر: صيد الخاطر", ص 14.
[3] "مجموع الفتاوى" 11/8.
[4] "النبوات" لابن تيمية 1/83.
[5] انظر: "الاعتصام" 1/274.
[6] سورة المائدة, الآية 83.
[7] سورة الإسراء, الآيات من 106-109.
[8] متفق عليه, البخاري 4/1689, كتاب: تفسير القرآن, باب: لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم, رقم: 4225, واللفظ له, ومسلم 4/1832, كتاب: الفضائل, باب: توقيره وترك سؤاله, رقم: 4351.
[9] رواه الترمذي في سننه 4/555, كتاب: الزهد عن رسول الله, باب: ما جاء في فضل البكاء من خشية الله, رقم: 2233, والنسائي 6/12, كتاب: الجهاد, باب: فضل من عمل في سبيل الله على قدمه, رقم: 3057, واللفظ له, وصححه الألباني في "مشكاة المصابيح" رقم: 3828.
[10] رواه ابن أبي الدنيا في "الرقة والبكاء" ص 205, رقم: 289.
[11] سورة الفرقان, الآية 13.
[12] رواه ابن أبي الدنيا في "الرقة والبكاء" ص 85, رقم: 83.
[13] المصدر السابق, ص 67, رقم: 57.
[14] المصدر السابق, ص 131, رقم: 153, وأبو نعيم في الحلية 3/7, وإسناده صحيح. ومعنى: "مجّ": أي: لا يستطيع أن يمسك ريقه من الكبر, لسان العرب 2/363 مادة: "مجج".
[15] رواه ابن أبي الدنيا في "الرقة والبكاء" ص 136, رقم: 168.
[16] المصدر السابق, ص 131, رقم: 151.
[17] المصدر السابق, ص 133, رقم: 157.
[18] "الاعتصام" 1/280.
( [19] ) رواه أبو داود في سننه 2/652, كتاب: السنة, باب: في المسألة في القبر وعذاب القبر, رقم: 4127, وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود 4/3.
( [20] ) "عمدة القاري" 14/136.
( [21] ) "النهاية في غريب الأثر" 3/334.