قال صلاح الدين بن أيبك الصفدي 764هـ : قال ديك الجن :
كيف الدعاءُ على مَن جار أو ظلمَا
ومالكي ظالمٌ في كلّ ما حكمَا
لا آخَذَ اللهُ مَن أهوى بجفوتهِ
عنّي ولا اقتصَّ لي منه ولا انتقمَا
قلت : ما أحقه بقولهم : صار فرعون مذكراً !! أليس هو الذي قتل جاريته وغلامه اللذين كان يهواهما ؟؟ وأحرق جسديهما ، وأخذ رمادهما وخلطه بدمهما وصنع منه برنيتين للخمر ، فكان يضعهما في مجلس شرابه يميناً وشمالاً ، فإذا اشتاق إليهما قبل كل واحدةٍ منهما قبلة ، وأنشد أبياته في الجارية ومنها :
يا طلعةً طلع الحمام عليها
وجنى لها ثمر الردى بيديها
روَّيت من دمها الثرى ولطالما
روَّى الهوى شفتيَّ من شفتيها
ثم يقبل الأخرى وينشد أبياته في الغلام ومنها :
فقتلته وبه عليَّ كرامة
فلي الحشا وله الفُؤاد بأسره
عهدي به ميتاً كأحسن نائمٍ
والحسن يسفح دمعتي في نحره؟ (1) .
وفي إيراد ابن قيم الجوزية : أن ديك الجن وجد الجارية والغلام وكان يهواهما متعانقين يقبل بعضهما بعضاً، فقتلهما معاً (2) .
قال أبو عبدالرحمن : القصة والشعر ورد منسوباً لديك الجن بسياق متعدد لا يتفق فيه سياق الشعر مع سياق القصة كما أسلفت ، وورد منسوباً لغير ديك الجن ، وكل ذلك يدل على أن القصة والشعر لا يصحان عن ديك الجن ، وأن نسبتهما لغير ديك الجن من أحاديث العشاق وأكثرها سمر وأساطير كما فصلت ذلك في كتابي كيف يموت العشاق ، والشعر عادي ليس فيه لفتة إبداع ، بل هو نظم عادي سهل وضعه على الحكواتي.
وعن ورودها منسوبة لغير ديك الجن قال أبو الفرج ابن الجوزي : أخبرنا محمد بن ناصر قال : أنبأنا المبارك بن عبدالجبار , وأخبرتنا شهدة بنت أحمد قالت : أنبأنا أبو محمد بن السراج , قالا : أنبأنا أبو محمد الحسن بن علي الجوهري قال : أنبأنا ابن حيويه قال : حدثنا ابن خلف قال : حدثني أبو عبدالله اليمامي : عن العتبي : عن أبيه قال : كان رجل من العرب تحته ابنة عم له ، وكان لها عاشقاً ، وكانت امرأة جميلة ، وكان من عشقه لها أنه يقعد في دهليزه مع ندمائه ، ثم يدخل ساعة بعد ساعة ينظُر إليها ، ثم يرجع إلى أصحابه عشقاً لها ، فطبن لها ابن عم لها ، فاكترا داراً إلى جنبه ، ثم لم يزل يراسلها حتى أجابته إلى ما أراد ، فاحتالت ، وتدلت إليه , ودخل الزوج كعادته ، لينظر إليها، فلم يرها ، فقال لأمها: أين فلانة ؟ فقالت : تقضي حاجة ، فطلبها في الموضع ، فلم يجدها، فإذا هي قد تدلت وهو ينظر إليها ، فقال له ا: ما وراءك ؟ والله لتصدقني , قالت : والله لأصدقنك من الأمر كيت وكيت ، فأقرت له ، فسل السيف ، فضرب عنقها ، ثم قتل أمها ، وهرب وأنشأ يقول :
يا طلعةً طلع الحمامُ عليها
وجنت لها ثمر الردى بيديها
روَّيت من دمها الثرا ولربما
روَّى الهوى شفتيَّ من شفتيها
حكَّمت سيفي في مجال خناقها
ومدامعي تجري على خديها
ما كان قتليها لأني لم أكن
أبكي إذا سقط الذبابُ عليها
لكنْ بخلت على العيونِ بحسنها
وأنفتُ من نظر الغلام إليها (3)
زاد ابن السراج في روايته عن خلف قال : وزادني غير أبي عبدالله : وكان لها أخت شاعرة فقالت تجيبه :
لو كنتَ تشفقُ أو ترقُّ عليها
لرفعتَ حدَّ السيفِ عن ودجيْهَا
ورحمتَ عبرتها وطولَ حنينها
وجزعتَ من سوءٍ يصيرُ إليها
من كان يفعل ما فعلتَ بمثلها
إذ طاوعتْكَ وخالفت أبويها
فتركتها في خدرها مقتولةً
ظلماً وتبكي يا شقيُّ عليها (4)
ولما ساق أبو الفرج الأصفهاني قصة ديك الجن قال عن الشعر: وهذه الأبيات تروى لغير ديك الجن , أخبرني بها محمد بن زكريا الصحاف قال : حدثنا عبدالله بن أبي سعد قال : حدثني محمد بن منصور قال : كان من غطفان رجل يقال له السُّلَيك بن مجمع ، وكان من الفرسان ، وكان مطلوباً في سائر القبائل بدماء قومٍ قتلهم ، وكان يهوى ابنة عمٍ له ، وكان خطبها مدة ، فمنعها أبوها ، ثم زوجه إياها خوفاً منه ، فدخل بها في دار أبيها ، ثم نقلها بعد أسبوع إلى عشيرته ، فلقيه من بني فزارة ثلاثون فارساً كلهم يطلبه بذَحلٍ ، فحلقوا عليه ، وقاتلهم ، وقتل منهم عدداً ، وأثخن بالجراح آخرين ، وأُثخن هو حتى أيقن بالموت ، فعاد إليها فقال : ما أسمح بك نفساً لها أُلاء، وأني أحب أن أقدمك قبلي , قالت : افعل ولو لم تفعله أنت لفعلته أنا بعدك ، فضربها بسيفه حتى قتلها وأنشأ يقول : يا طلعة طلع الحمام عليها .
وذكر الأبيات المنسوبة إلى ديك الجن ، ثم نزل إليها، فتمرغ في دمها ، وتخضب به ، ثم تقدم فقاتل حتى قتل , وبلغ قومه خبره فحملوه وابنة عمه فدفنوهما , قال : وحفظت فزارة عنه هذه الأبيات فنقلوها , قال : وبلغني أن قومه أدركوه وبه رمق فسمعوه يردد هذه الأبيات ، فنقلوها ، وحفظوها عنه ، وبقي عندهم يوماً ، ثم مات (5) .
وقال ابن حجلة : ومما ينخرط في سلك هذه الحكاية ما حكاه الشيخ أثير الدين أبو حيان في تفسيره عند قوله تعالى : " يوسف أعرض عن هذا واستغفري لذنبك " : ونقل عن العزيز أنه كان قليل الغيرة وتربة إقليم مصر اقتضت هذا (6) ,, يعني قلة الغيرة , ثم قال : وأين هذا مما جرى لبعض ملوك بلادنا، وهو أن كان مع ندمائه المختصين به في مجلس أنسه وجاريته تغني من ورء الستارة ، فاستعاد بعض جلسائه بيتين من الجارية وكانت قد غنت بهما ، فما لبث حتى أُتي برأس الجارية مقطوعاً في طشت وقال له الملك : استعذ من هذا الرأس ، فسقط ذلك الرجل المستعيذ، ومرض مدة حياة ذلك الملك.
قلت : لو مات كان معذوراً ، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .
ومثل هذا أيضاً ما فعله جعفر بن سليمان ، وذلك أنه لما اشترى جاريته الزرقاء وكانت جارية نفيسة غالية الثمن ، وهي بثمانين ألف درهم ، وكانت من الفتيات الحسان ذوات الألحان ، فقال لهما يوماً : هل ظفر منك أحد ممن كان يهواك بخلوة أو بقبلة ؟ فخشيت أن يبلغه شيء كانت فعلته بحضرة جماعة ، أو يكون قد بلغه فقالت : لا والله إلا يزيد بن عون العبادي قبلني وقذف لي لؤلؤة بعتها بثلاثين ألف درهم , فلم يزل جعفر يطلبه ويحتال له حتى وقع في يده فضربه بالسياط حتى مات (7) .
وذكر ابن خلكان أن أبا بكر الخرائطي (327هـ) ذكر في كتابه ( اعتلال القلوب ) حديث ديك الجن وشعره (8) .
قال أبو عبدالرحمن لا جديد عند الخرائطي ، وكل ما ذكره القصيدة اليائية بوصل الهاء، والرائية بوصل الهاء وقصتهما على نحو ما ذكره ابن قيم الجوزية في ( روضة المحبين ) روى ذلك علي بن عبدالله الأنماطي عن جماعة من شيوخ حمص (9) , وذلك بعد وفاة ديك الجن بقرن , ومن نماذج هذا الجنون ما ذكره الأستاذ عبدالمطلب صالح , قال : استوحى أبو ريشة من معاني قصيدة ديك لجن ملامح تشير إلى سابقة في تجربة إنسانية نجدها في الحياة , نقرأُها عند هذا الأديب أو ذاك , من الذي لا يشعر بأساً عميق وهو يقرأُ عطيل ذاك الزنجي الذي سدت الغيرة مسارب فكره وقلبه ، وأعمت بصيرته حين أجهز على زوجته التي تحبه , وكانت صادقة في حبه قتلها إذ اتهمها بالخيانة , وتكاد حكاية ديك الجن وعطيل وأبو ريشة تشبه أسطورة ذلك الهولندي الطائر الذي فُجع بالحب أدمته مَن وضَع ثقته بها، لكن كتبت الآلهة (10) بعد ذلك أن يطوف في البحار والمحيطات يدور ويدور، لا يطاله (11) الموت خالداً في العذاب إلى أن يجد المرأة التي تحبه , وعند ذالك تكون نهاية رحلته (12) .
قال أبو عبدالرحمن : موجز القول : أن قصة ديك الجن والأشعار حولها أخبار أدباء لا يقوى بعضها بعضاً، لأنها متناقضة لا تستقيم على سياق واحد ، والشعر عادي يستطيع أن ينظم مثله كل حكواتي , إلا أن القصة شنيعة مثيرة ، لأنها مأساة ، لهذا اهتم الأدب الحديث بهذه المأساة واتخذها رمزاً , ولا يبعد أن ديك الجن قتل جارية لسبب ما، فنسجت حوله قصة البرنية ، وأضيف إليه قصة قديمة يتسلاَّ بها الأعراب من أحاديث العشاق , ولقد تمثل القصة الأسطورة نسيب عريضة ، ورئيف خوري، والبدوي الملثم ، وعمر أبو ريشة .
الحواشي :
(1) الغيث المسجم في شرح لامية العجم 2/160.
(2) روضة المحبين ص 220، وهي قريبة من رواية ابن الجوزي التي سلف ذكرها.
(3) في أسواق العشاق: وأنفت.
(4) ذم الهوى ص 416 417,, وانظر أسواق العشاق نسخة الخزانة العامة بالرباط ورقة 230.
(5) الأغاني 14/59.
(6) كل هذا حديث خرافة، وتجنَّ على أرض الكنانة وأهلها.
(7) ديوان الصبابة ص 98 99.
(8) وفيات الأعيان 3/188.
(9)أفدت ذلك من كتاب اعتلال القلوب نسخة الخزانة العامة بالرباط.
(10) قال أبو عبدالرحمن: هذا الأدب الحديث يجبرنا على نقل حكايات الكفر الوثنية.
(11) قال أبو عبدالرحمن: تفشى اللحن عند كبار المثقفين والمذيعين والصحفيين، فوجدناهم يقولون: حوالا الساعة الثامنة، وماأة رجل، والعمروي ينطقون بالواو وهم يريدون العمري بسكون الميم,, وهاأُلاإ جاأُوا ببدعتين: إحداهما صيغة يطال تنزيلاً لها منزلة ينال,, وإنما هي طال يطول،,, وإخراهما تعديتها، وهي لا تتعَّدا إلا في المغالبة والمطاوعة.
(12) دراسات أدبية مقارنة ص 170و171.